فصل: قال سيد قطب في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وفي السوار لغتان: كسر السين وضمها، وفيه لغة ثالثة، وهي أسوار.
قرأ نافع وابن كثير وعاصم وشيبة {ولؤلؤًا} بالنصب عطف على محل {أساور} أي ويحلون لؤلؤًا، أو بفعل مقدّر ينصبه، وهكذا قرأ بالنصب يعقوب والجحدري وعيسى بن عمر، وهذه القراءة هي الموافقة لرسم المصحف فإن هذا الحرف مكتوب فيه بالألف، وقرأ الباقون بالجرّ عطفًا على {أساور} أي يحلون من أساور ومن لؤلؤ، واللؤلؤ: ما يستخرج من البحر من جوف الصدف.
قال القشيري: والمراد ترصيع السوار باللؤلؤ، ولا يبعد أن يكون في الجنة سوار من لؤلؤ مصمت كما أن فيها أساور من ذهب {وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} أي جميع ما يلبسونه حرير كما تفيده هذه الإضافة، ويجوز أن يراد أن هذا النوع من الملبوس الذي كان محرّمًا عليهم في الدنيا حلال لهم في الآخرة، وأنه من جملة ما يلبسونه فيها، ففيها ما تشتهيه الأنفس، وكل واحد منهم يعطى ما تشتهيه نفسه وينال ما يريده.
{وَهُدُواْ إِلَى الطيب مِنَ القول} أي أرشدوا إليه، قيل: هو لا إله إلا الله.
وقيل: الحمد لله.
وقيل: القران.
وقيل: هو ما يأتيهم من الله سبحانه من البشارات.
وقد ورد في القرآن ما يدلّ على هذا القول المجمل هنا، وهو قوله سبحانه: {الحمد للَّهِ الذي صَدَقَنَا وَعْدَهُ} [الزمر: 74]، {الحمد لِلَّهِ الذي هَدَانَا لهذا} [الأعراف: 43]، {الحمد للَّهِ الذي أَذْهَبَ عَنَّا الحزن} [فاطر: 34].
ومعنى {وَهُدُواْ إلى صراط الحميد}: أنهم أرشدوا إلى الصراط المحمود وهو طريق الجنة، أو صراط الله الذي هو دينه القويم، وهو الإسلام.
وقد أخرج عبد الرزاق وعبد بن حميد وابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة في قوله: {والصابئين} قال: هم قوم يعبدون الملائكة، ويصلون القبلة، ويقرؤون الزبور {والمجوس} عبدة الشمس والقمر والنيران، {والذين أَشْرَكُواْ} عبدة الأوثان {إِنَّ الله يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ} قال: الأديان ستة؛ فخمسة للشيطان، ودين الله عز وجل.
وأخرج ابن أبي حاتم عن عكرمة في الآية قال: فصل قضاءه بينهم فجعل الخمسة مشتركة وجعل هذه الأمة واحدة.
وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: الذين هادوا: اليهود، والصابئون: ليس لهم كتاب، والمجوس: أصحاب الأصنام، والمشركون: نصارى العرب.
وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي ذرّ أنه كان يقسم قسمًا أن هذه الآية: {هذان خَصْمَانِ} الآية نزلت في الثلاثة والثلاثة الذين بارزوا يوم بدر، وهم: حمزة بن عبد المطلب وعبيدة بن الحارث وعليّ بن أبي طالب، وعتبة، وشيبة ابنا ربيعة والوليد بن عتبة، قال عليّ: وأنا أوّل من يجثو في الخصومة على ركبتيه بين يدي الله يوم القيامة.
وأخرجه البخاري وغيره من حديث عليّ.
وأخرجه ابن مردويه عن ابن عباس بنحوه، وهكذا روي عن جماعة من التابعين.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير في قوله: {قُطّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مّن نَّارِ} قال: من نحاس، وليس من الآنية شيء إذا حمي أشدّ حرًّا منه، وفي قوله: {يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الحميم} قال: النحاس يذاب على رؤوسهم، وقوله: {يُصْهَرُ بِهِ مَا في بُطُونِهِمْ} قال: تسيل أمعاؤهم {والجلود} قال: تتناثر جلودهم.
وأخرج عبد بن حميد، والترمذي وصححه، وعبد الله بن أحمد في زوائد الزهد، وابن جرير وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه، وأبو نعيم في الحلية، وابن مردويه عن أبي هريرة؛ أنه تلا هذه الآية: {يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الحميم} فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن الحميم ليصب على رؤوسهم فينفذ الجمجمة حتى يخلص إلى جوفه، فيسلت ما في جوفه حتى يمرق من قدميه وهو الصهر، ثم يعاد كما كان» وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ} قال: يمشون وأمعاءهم تتساقط وجلودهم.
وفي قوله: {وَلَهُمْ مَّقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ} قال: يضربون بها، فيقع كل عضو على حياله فيدعون بالويل والثبور.
وأخرج ابن جرير عنه في الآية قال: يسقون ماء إذا دخل في بطونهم أذابها والجلود مع البطون.
وأخرج أحمد، وأبو يعلى وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه، وابن مردويه، والبيهقي في البعث والنشور عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لو أن مقمعًا من حديد وضع في الأرض فاجتمع الثقلان ما أقلوه من الأرض، ولو ضرب الجبل بمقمع من حديد لتفتت ثم عاد كما كان» وأخرج ابن المبارك وسعيد بن منصور وهناد وعبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه عن سلمان قال: النار سوداء مظلمة لا يضيء لهبها ولا جمرها، ثم قرأ: {كُلَّمَا أرادواْ أَن يَخْرُجُواْ مِنْهَا مِنْ غَمّ أُعِيدُواْ فِيهَا}.
وفي الصحيحين وغيرهما عن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة» وفي الباب أحاديث.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {وَهُدُواْ إِلَى الطيب مِنَ القول} قال: ألهموا.
وأخرج ابن أبي حاتم عن أبي العالية قال: هدوا إلى الطيب من القول في الخصومة إذ قالوا: الله مولانا ولا مولى لكم.
وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم عن إسماعيل بن أبي خالد في الآية قال: القران {وَهُدُواْ إلى صراط الحميد} قال: الإسلام.
وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم عن الضحاك في الآية قال: الإسلام.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن زيد قال: لا إله إلا الله، والله أكبر، والحمد لله الذي قال: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الكلم الطيب} [فاطر: 10]. اهـ.

.قال سيد قطب في الآيات السابقة:

{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1)}.
مطلع عنيف رعيب، ومشهد ترتجف لهوله القلوب. يبدأ بالنداء الشامل للناس جميعًا: {يا أيها الناس} يدعوهم إلى الخوف من الله: {اتقوا ربكم} ويخوفهم ذلك اليوم العصيب: {إن زلزلة الساعة شيء عظيم}.
وهكذا يبدأ بالتهويل المجمل، وبالتجهيل الذي يلقي ظل الهول يقصر عن تعريفه التعبير، فيقال: إنه زلزلة. وإن الزلزلة {شيء عظيم}، من غير تحديد ولا تعريف.
ثم يأخذ في التفصيل. فإذا هو أشد رهبة من التهويل.. إذا هو مشهد حافل بكل مرضعة ذاهلة عما أرضعت تنظر ولا ترى، وتتحرك ولا تعي. وبكل حامل تسقط حملها للهول المروع ينتابها.. وبالناس سكارى وما هم بسكارى، يتبدى السكر في نظراتهم الذاهلة، وفي خطواتهم المترنحة.. مشهد مزدحم بذلك الحشد المتماوج، تكاد العين تبصره لحظة التلاوة، بينما الخيال يتملاه. والهول الشاخص يذهله، فلا يكاد يبلغ أقصاه. وهو هول حي لا يقاس بالحجم والضخامة، ولَكِن يقاس بوقعه في النفوس الآدمية: في المرضعات الذاهلات عما أرضعن وما تذهل المرضعة عن طفلها وفي فمه ثديها إلا للهول الذي لا يدع بقية من وعي والحوامل الملقيات حملهن، وبالناس سكارى وما هم بسكارى: {ولَكِن عذاب الله شديد}..
إنه مطلع عنيف مرهوب تتزلزل له القلوب..
في ظل هذا الهول المروع يذكر أن هنالك من يتطاول فيجادل في الله، ولا يستشعر تقواه:
{ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ويتبع كل شيطان مريد كتب عليه أنه من تولاه فأنه يضله ويهديه إلى عذاب السعير}.
والجدال في الله، سواء في وجوده تعالى، أو في وحدانيته، أو في قدرته، أو في علمه، أو في صفة ما من صفاته.. الجدال في شيء من هذا في ظل ذلك الهول الذي ينتظر الناس جميعًا، والذي لا نجاة منه إلا بتقوى الله وبرضاه.. ذلك الجدال يبدو عجيبًا من ذي عقل وقلب، لا يتقي شر ذلك الهول المزلزل المجتاح.
وياليته كان جدالًا عن علم ومعرفة ويقين. ولَكِنه جدال {بغير علم} جدال التطاول المجرد من الدليل. جدال الضلال الناشيء من اتباع الشيطان. فهذا الصنف من الناس يجادل في الله بالهوى: {ويتبع كل شيطان مريد} عات مخالف للحق متبجح {كتب عليه أنه من تولاه فأنه يضله ويهديه إلى عذاب السعير}.. فهو حتم مقدور أن يضل تابعه عن الهدى والصواب، وأن يقوده إلى عذاب السعير.. ويتهكم التعبير فيسمي قيادته أتباعه إلى عذاب السعير هداية! {ويهديه إلى عذاب السعير}.. فيالها من هداية هي الضلال المهلك المبيد!
أم إن الناس في ريب من البعث؟ وفي شك من زلزلة الساعة؟ إن كانوا يشكون في إعادة الحياة فليتدبروا كيف تنشأ الحياة، ولينظروا في أنفسهم، وفي الأرض من حولهم، حيث تنطق لهم الدلائل بأن الأمر مألوف ميسور؛ ولَكِنهم هم الذين يمرون على الدلائل في أنفسهم وفي الأرض غافلين:
{يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة لنبين لكم ونقر في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمى ثم نخرجكم طفلًا ثم لتبلغوا أشدكم ومنكم من يتوفى ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكيلا يعلم من بعد علم شيئًا وترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج}..
إن البعث إعادة لحياة كانت، فهو في تقدير البشر أيسر من إنشاء الحياة. وإن لم يكن بالقياس إلى قدرة الله شيء أيسر ولا شيء أصعب. فالبدء كالإعادة أثر لتوجه الأرادة: {إنما أمره إذا أراد شيئًا أن يقول له كن فيكون} ولَكِن القران يأخذ البشر بمقاييسهم، ومنطقهم، وإدراكهم، فيوجه قلوبهم إلى تدبر المشهود المعهود لهم، وهو يقع لهم كل لحظة، ويمر بهم في كل برهة؛ وهو من الخوارق لو تدبروه بالعين البصيرة، والقلب المفتوح، والحس المدرك. ولَكِنهم يمرون به أو يمر بهم دون وعي ولا انتباه.
فما هؤلاء الناس؟ ما هم؟ من أين جاءوا؟ وكيف كانوا؟ وفي أي الأطوار مروا؟
{فإنا خلقناكم من تراب}. والإنسان ابن هذه الأرض. ومن ترابها نشأ، ومن ترابها تكوّن، ومن ترابها عاش. وما في جسمه من عنصر إلا له نظيره في عناصر أمة الأرض. اللهم إلا ذلك السر اللطيف الذي أودعه الله إياه ونفخه فيه من روحه؛ وبه افتراق عن عناصر ذلك التراب. ولَكِنه أصلًا من التراب عنصرًا وهيكلًا وغذاء. وكل عناصره المحسوسة من ذلك التراب.
ولَكِن أين التراب وأين الإنسان؟ أين تلك الذرات الأولية الساذجة من ذلك الخلق السوي المركب، الفاعل المستجيب، المؤثر المتأثر، الذي يضع قدميه على الأرض ويرف بقلبه إلى السماء؛ ويخلق بفكره فيما وراء المادة كلها ومنها ذلك التراب..
إنها نقلة ضخمة بعيدة الأغوار والآماد، تشهد بالقدرة التي لا يعجزها البعث، وهي أنشأت ذلك الخلق من تراب!
{ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مخلقة وغير مخلقة لنبين لكم ونقر في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمى ثم نخرجكم طفلًا }.
والمسافة بين عناصر التراب الأولية الساذجة والنطفة المؤلفة من الخلايا المنوية الحية، مسافة هائلة، تضمر في طياتها السر الأعظم. سر الحياة. السر الذي لم يعرف البشر عنه شيئًا يذكر، بعد ملايين الملايين من السنين، وبعد ما لا يحصى من تحول العناصر الساذجة إلى خلايا حية في كل لحظة من لحظات تلك الملايين. والذي لا سبيل إلى أكثر من ملاحظته وتسجيله، دون التطلع إلى خلقه وإنشائه، مهما طمح الإنسان، وتعلق بأهداب المحال!
ثم يبقى بعد ذلك سر تحول تلك النطفة إلى علقة، وتحول العلقة إلى مضغة، وتحول المضغة إلى إنسان! فما تلك النطفة؟ إنها ماء الرجل. والنقطة الواحدة من هذا الماء تحمل ألوف الحيوانات المنوية. وحيوان واحد منها هو الذي يلقح البويضة من ماء المرأة في الرحم، ويتحد بها فتعلق في جدار الرحم.
وفي هذه البويضة الملقحة بالحيوان المنوي.. في هذه النقطة الصغيرة العالقة بجدار الرحم بقدرة القادر وبالقوة المودعة بها من لدنه في هذه النقطة تكمن جميع خصائص الإنسان المقبل: صفاته الجسدية وسماته من طول وقصر، وضخامة وضآلة، وقبح ووسامة، وآفة وصحة.. كما تكمن صفاته العصبية والعقلية والنفسية: من ميول ونزعات، وطباع واتجاهات، وانحرافات واستعدادات..
فمن يتصور أو يصدق أن ذلك كله كامن في تلك النقطة العالقة؟ وأن هذه النقطة الصغيرة الضئيلة هي هذا الإنسان المعقد المركب، الذي يختلف كل فرد من جنسه عن الآخر، فلا يتماثل اثنان في هذه الأرض في جميع الأزمان؟!
ومن العلقة إلى المضغة، وهي قطعة من دم غليظ لا تحمل سمة ولا شكلًا. ثم تخلق فتتخذ شكلها بتحولها إلى هيكل عظمي يكسى باللحم؛ أو يلفظها الرحم قبل ذلك إن لم يكن مقدرًا لها التمام.
{لنبين لكم}.. فهنا محطة بين المضغة والطفل، يقف السياق عندها بهذه الجملة المعترضة: {لنبين لكم}. لنبين لكم دلائل القدرة بمناسبة تبين الملامح في المضغة. وذلك على طريقة التناسق الفني في القرآن.
ثم يمضي السياق مع أطوار الجنين: {ونقر في الأرحام ما نشاء إلى أجل مسمى} فما شاء الله أن يتم تمامه أقره في الأرحام حتى يحين أجل الوضع. {ثم نخرجكم طفلًا}.. ويا للمسافة الهائلة بين الطور الأول والطور الأخير!
إنها في الزمان تعادل في العادة تسعة أشهر. ولَكِنها أبعد من ذلك جدًّا في اختلاف طبيعة النطفة وطبيعة الطفل. النطفة التي لا ترى بالعين المجردة وهذا المخلوق البشري المعقد المركب، ذو الأعضاء والجوارح، والسمات والملامح، والصفات والاستعدادات، والميول والنزعات..
إلا أنها المسافة التي لا يعبرها الفكر الواعي إلا وقد وقف خاشعًا أمام آثار القدرة القادرة مرات ومرات.. ثم يمضي السياق مع أطوار ذلك الطفل بعد أن يرى النور، ويفارق المكمن الذي تمت فيه تلك الخوارق الضخام، في خفية عن الأنظار!
{ثم لتبلغوا أشدكم}.. فتستوفوا نموكم العضلي، ونموكم العقلي، ونموكم النفسي.. وكم بين الطفل الوليد والإنسان الشديد من مسافات في المميزات أبعد من مسافات الزمان! ولَكِنها تتم بيد القدرة المبدعة التي أودعت الطفل الوليد كل خصائص الإنسان الرشيد، وكل الاستعدادات الكامنة التي تتبدى فيه وتتكشف في أوانها، كما أودعت النقطة العالقة بالرحم كل خصائص الطفل، وهي ماء مهين!
{ومنكم من يتوفى ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكيلا يعلم من بعد علم شيئًا}..
فأما من يتوفى فهو صائر إلى نهاية كل حي. وأما من يرد إلى أرذل العمر فهو صفحة مفتوحة للتدبر ما تزال. فبعد العلم، وبعد الرشد، وبعد الوعي، وبعد الاكتمال.. إذا هو يرتد طفلًا. طفلًا في عواطفه وانفعالاته. طفلًا في وعيه ومعلوماته. طفلًا في تقديره وتدبيره. طفلًا أقل شيء يرضيه وأقل شيء يبكيه. طفلًا في حافظته فلا تمسك شيئًا، وفي ذاكرته فلا تستحضر شيئًا. طفلًا في أخذه الأحداث والتجارب فرادى لا يربط بينها رابط ولا تؤدي في حسه ووعيه إلى نتيجة، لأنه ينسى أولها قبل أن يأتي على آخرها: {لكي لا يعلم من بعد علم شيئًا} ولكي يفلت من عقله ووعيه ذلك العلم الذي ربما تخايل به وتطاول، وجادل في الله وصفاته بالباطل!